لا يخفى على كل مؤمن أن الله فرض فرائض رحمة بنا، ولطفا منه، وما من فريضة إلا ولها حكمة ومقصد يعود على الممتثلين بها بالمصالح العاجلة والآجلة.
لكن قد نغفل عن هذه الحكم السامية والمقاصد العالية في ظل الفتن المحدثة، وفي ظل هذا العصر المشوب بالمغريات المانعة من تحقيق الأغراض التي من أجلها شرع الله الشرائع وسن السنن، ومن ثم يحرم العديد من المسلمين من الانتفاع بجلب المصالح الدنيوية والأخروية، فالدنيا دار زرع والآخرة دار حصاد.
تذكير بمجموعة من المقاصد التي من أجلها شرع الله الصيام حتى يعود علينا الانقطاع عن المأكل والمشرب بنفع عام وشامل للحياة الفانية والباقية.
قد يبدو لبعض المسلمين في ظل التغيرات الزمانية والبعد عن دين الله وعن حقيقة شرائع الله أن هذا الصيام ما هو إلا تعذيب للنفس وحرمانها من شهواتها، وحتى إن كانوا من الصائمين كان الصوم مجرد انقطاع عن المأكل والمشرب، أما الانقطاع عن شهوة النظر وما يتبعها فيكاد يغيب في مجتمعاتنا في شهر العبادة، فمظاهر الانحلال والتبعية والعدوانية بادية للعيان لا استتار فيها واستحياء ولا احترام.
إذن كيف نعيد تحقيق المقاصد السامية للصيام؟
وكيف يكون صيامنا صحيحا في مظهره وجوهره؟
وبكلمة جامعة، لماذا نصوم؟
وما هي مقاصد الصيام الدنيوية والأخروية؟.
المقاصد الدنيوية:
- مقصد التقوى ..
الجواب على هذه الأسئلة نجده بكل يسر في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)البقرة 184
حيث علل الله الأمر بالصيام تعليلا ظاهرا وصريحا وهو تحقيق صفة التقوى في نفس الذين آمنوا، ولا شك في أن النداء بوصف الإيمان أولا ، وهو أساس كل خير ومنبع كل فضيلة، وفي ذكر التقوى في الآخر وهو روح الإيمان وسر الفلاح، إرشاد قوي ودلالة قوية واضحة أن نتيجة الصيام الصحيح الكامل هي امتلاك النفس لتقوى الله في السر والعلن، فإن لم يتحقق هذا المقصد كان الصيام مجرد تعب ونصب.
والتقوى :هي اجتناب ما ليس به بأس مخافة أن يكون به بأس، وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخفه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يكون سببا في غضب الله وعقابه، وقاية تقيه منه، يعني ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وأكثر من هذا فعل المندوبات وترك المكروهات.
قال عمر بن عبد العزيز( ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض عليه)
وقال الحسن البصريما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام).
وقال أيضاإن لأهل التقوى علامات: صدق الحديث، الوفاء بالعهد، صلة الرحم، رحمة الضعفاء، قلة الفخر والكبر، بذل المعروف، حسن الخلق، سعة الحلم، اتباع العلم فيما يقرب إلى الله).
فإذا كان المقصد الأعظم للصيام نص الله عليه بصريح الكلام فإن هناك مقاصد أخرى عظيمة يمكن استنباطها بتتبع جملة من النصوص الشرعية نذكر منها:
- مقصد الهداية..
قرن الله تعالى شهر الصيام بالقرآن فقال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)البقرة183
فشهر رمضان اختاره الله لينزل ما به يهتدي الناس كل الناس، فهو محطة هداية وطلب الهداية، إنه الشهر الذي يقبل فيه عباد الرحمن على عبادته،
يقول سعيد النورسيلما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفاسف الأمور وترهاتها استعدادا للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالا طيبا يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية،
بترك الأكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوة كأن الآيات تتنزل مجددا، والإصغاء إليه بهذا الشعور بخشوع كامل، واستماع إلى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو إلى مقام رفيع، وحالة روحية سامية،
كأن القارئ يسمعه من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، بل شد السمع إليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الأزلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبيانا لحكمة من حكم نزوله)
الشكر ثمرة الحياة وغاية الكائنات ص12 لسعيد النورسي.
- مقصد الشكر..
لا شك أن المؤمن إن حرم شيئا ثم ناله كان ذلك مبعثا له لشكر المنعم واعتراف بالعجز والضعف
يقول سعيد النورسيإن الله سبحانه وتعالى قد خلق وجه الأرض مائدة ممتدة عامرة بالنعم التي لا يحصرها العد، وأعدها إعدادا بديعا من حيث لا يحتسبه الإنسان، فهو سبحانه يبين بهذا الوضع، كمال ربوبيته ورحمانيته ورحيميته، بيد أن الإنسان لا يبصر تماما تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الأسباب الحقيقة الباهرة التي يفيدها ويعبر عنها هذا الوضع،
وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فورا في حكم جيش منظم، يتقلدون جميعا وشاح العبودية لله،
ويكونون في وضع متأهب قبيل الإفطار تلبية أمر القادر الأزلي( تفضلوا) إلى مائدة ضيافته الكريمة)
الشكر ثمرة الحياة ص6 سعيد النورسي فيعرفون أن ذلك الفضل الكبير من الله العظيم فتقبل قلوبهم على ذكره وشكره وامتثال أمره.
إن صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص وحمد عظيم عام لله سبحانه، ذلك أن أغلب الناس لا يدركون قيمة نعم كثيرة لعدم تعرضهم لقسوة الحرمان،
فالناس قد خلقهم الله على صور متباينة من حيث المعيشة، ولا جرم أن الأغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعورا كاملا حالات الفقر الباعثة على الرأفة والرحمة والإحساس
بالمحرومين، ولا يمكنهم أن يحسوا إحساسا تاما بجوعهم إلا من خلال الجوع المتولد عن الصوم، فأمر الله بالصوم لتعرف الأنفس معنى افتقادها لما به تسعد في الدنيا،
وتدرك ألم الجوع والفقر وتعلم أنها نعم الله الثمينة التي تستوجب الشكر،
وأعظم مظهر للشكر هو مد يد المعاونة للمحتاجين وإسداء الإحسان إلى الآخرين.
وما اختتام شهر رمضان بافتراض زكاة الفطر إلا دليل على الدعوة إلى الجود والكرم.
فمن مقاصد الصوم إحساس الصائم بعظم نعم الله عليه فهو يمسك عليها مؤقتا أجل الإحساس بقيمتها، ومضار الحرمان منها ومن ثم تلين قلوبهم وجلودهم لذكر الله ،
وينمو في أنفسهم الإحساس بالمسؤولية التضامنية عندما يتذكر أحوال المحرومين فيرحم الجائع ويكسي العاري.
- الصوم تزكية ..
من مقاصد الصوم كذلك تربية النفس وتهذيبها، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية والعدوانية، ففي شهر الصوم يغرس خلق المراقبة وخلق الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية،
فيعمل المؤمنون على تجديد نياتهم وتقوية عزائمهم فيثبتون على نوائب الدهر كلها، ويتلقون التكاليف الشرعية بقوة لا تعرف الضعف وثبات لا تعرف الملل، وإرادة لا تعرف الهزيمة، وإخلاص لا يعرف الرياء.
يقول السعيد النورسي إن النفس الإنسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غير محدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لاتريد أن ترى هذه الأمور الكامنة في ماهيتها فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها..
ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيها بكمال الشفقة والرأفة فتهوى في هاوية الأخلاق الرديئة ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة أخراها. ولكن صوم رمضان يشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمردا بضعفهم وعجزهم، فبواسطة الجوع يفكر كل منهم في نفسه...
ويتذكر مدى ضعفه ومدى حاجته إلى الرحمة الإلهية ورأفتها،
فيشعر في أعماقه توقا إلى طرق باب المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهر متخليا عن فرعنة النفس متهيئا بذلك لطرق باب الرحمة الإلهية)
الشكر ثمرة الحياة وغاية الكائنات ص12،
فتزكو نفسه وتتعود على طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه وفي هذا إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي، والصوم لا يكبح جماح شهوة البطن والفرج فقط بل يكبح حتى الشهوات النفسية
قال صلى الله عليه وسلم ( إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب وإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم)
فالصوم الكامل يجعل جميع حواس الإنسان كالعين والأذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة، أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها إلى عبودية خاصة لكل منها،
فيروض لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها ويرطب ذلك اللسان بذكر الله وتلاوة القرآن ، ويغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذيء،
و لا يمد يده إلى حرام ولا يدسها في غش وخداع، ولا تسعى رجله إلى حرام..
ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام يناسبها.
- الصوم وقاية ..
قال صلى الله عليه وسلم الصوم جنة) يعني إنه وقاية ،
فكما يقي من الوقوع في الأثام، ويقي من النار فإنه يقي النفس من الأمراض، إذ أن الإنسان كلما سلكت نفسه سلوكا طليقا في الأكل والشرب يسبب له أضرارا في حياته الشخصية،
فالصوم يقي من الأمراض الناشئة من امتلاء المعدة وإدخال الطعام على الطعام.
وغيرها من الأمور التي تكلف المختصون ببيانها علميا وطبيا.
يتبع ,, ~